مثل المتطبب الكاذب
قال دمنة: زعموا أنه كان ببعض مدائن السند متطبب ذو وفق وعلم، كثير الحظوة فيما يجري على يديه من أسباب العافية فيما يعالج به الناس من طبّه وأدويته. فمات ذلك المتطبب وانتفع الناس بما في كتبه. وإن رجلاً سفيهاً ادعى علم الأدوية وأشاع ذلك في الناس. وكان لملك تلك المدينة ابنة لها داء ثقيل فبعث الملك يطلب الأطباء فذكر له متطبب على رأس فراسخ يوصف بعلم الطب فبعث إليه. فلما جاءه الرسول وجده قد ذهب بصره من الكبر، فذكروا له علة الجارية وما تجد، فوصف لها دواء له اسم معروف يقال له زمهران. فقالوا له: اخلط لنا هذا الدواء. قال: لست أبصر لأجمع أخلاطه على معرفتي. فأتاهم ذلك السفيه المدعي علم الطب فأعلمهم أنه عارف بذلك الدواء، عالم بالأخلاط والعقاقير، بصير بطبائع الأدوية المفردة والمركّبة. فأمر الملك بإخراج كتب المتطبب الميت إليه وإدخاله الخزانة ليأخذ مما فيها من أخلاط الأدوية. فلما دخل وعرضت عليه أخلاط الأدوية وهو لا يدري ما هي ولا معرفة له بها، أخذ منها أشياء بغير علم ولا معرفة إلا على الظن والشبهة فوقع في سم قاتل، فأخذه وخلطه بأخلاطه تلك ثم سقى الجارية، فلم تلبث إلا ساعة حتى ماتت. فأخذه الملك فسقاه من دوائه الذي خلطه فمات لوقته.
قال دمنة: إنما ضربت لكم هذا المثل لتعرفوا ما يدخل على القاتل بالجهالة والعامل بالشبهة من الإثم. ثم تكلم سيد الخنازير صاحب مائدة الملك إتباعاً لهوى أم الأسد، فقال: إن أحق من لم يسأل عنه العامة ولم يشكل أمره على الخاصة لهذا الشقي الذي قد ظهرت فيه علامات الشر وسمات الفجور وقد عرف العلماء ما الحكم فيها.
قال رأس القضاة: وما تلك العلامات والسمات؟ فأطلعنا على ما ترى في صورة هذا الشقي. فجهر سيد الخنازير بصوته وقال: إن العلماء قد قالوا: إن من صغرت عينه اليسرى وهي لا تزال تختلج، ومال أنفه بعض الميل إلى شقّه الأيمن وبعد ما بين حاجبيه، وكانت منابت شعر جسده ثلاث شعرات ثلاث شعرات، وإذا مشى كان أكثر نظره إلى الأرض ويلتفت تارة بعد تارة، فإن ذلك مستجمع للغدر وطباع الآثام والبغي على الصالحين. وهذه العلامات كلها في دمنة.
فلما قضى قوله أكثر دمنة التعجب من كلامه وقال: إن الأمور يحكم بعضها بعضاً وإن حكم الله صواب لا خطأ فيه ولا جور فيه ولا عدوان. ولو كانت هذه العلامات التي ذكرتها وأشباهها يناب بها عن العدل والمعرف بالحق، لم يتكلف الناس الحجج ولم كان جزاء أهل الإحسان وجزاء أهل الفجور إلى على هذه العلامات. وهذا لم يوجب عليّ شيئاً لأن هذه العلامات تخلق مع صاحبها حين يخلق وتولد معه حين يولد. وإن كنت تزعم أن الخير والشر إنما يكونان بالعلامات فكذلك إذاً لا حمد للمحسن ولا ذمّ على المسيء، ولا أجدني في هذا أيضاَ إلا معذوراً، ولا أراك تنطق إلا بعذري وتذكر براءتي وأنت لا تدري ولا تفكر فيما تقول وإنما أنت في هذا كرجل قال لامرأته: أبصري عيبك يا سفيهة ثم عيبي غيرك.
فسُئِل دمنة كيف كان ذلك؟
مثل الرجل والمرأتين
قال دمنة: زعموا أن مدينة كانت تدعى بورخشت دخلها الأعداء مرة فقتلوا ممن كان فيها عالماً وسبوا نساءهم واقتسموا السبي. فأصاب جندي من العدو رجلاً حرّاثاً مع امرأتين. فكان ذلك الرجل يعرّيهم من الكسوة ويصومهم عن المطعم والمشرب. فانطلق الحرّاث يوماً من الأيام مع الرجل والمرأتين ليحتطبوا فوجدت إحداهما خرقة فاستترت بها فقالت الأخرى لبعلها: ألا تنظر إلى هذه كيف تمشي بخرقتها. فقال زوجها: ويلك ألا تبصرين نفسك فتستري مثلها ثم تكلمي.
فأمرك أنت أعجب فيما قد عرفت من قذارة جسمك ونجاستك وجرأتك على ذلك من الدنو إلى طعام الملك والقيام عليه وبين يديه كالبريء من العيب والنقيّ من الدنس، ولست بالمطلع على عيبك دون أهل العقل من أهل المجلس. ولم يمنعني من إبداء عيبك قبل اليوم إلا مودة كانت ما بيني وبينك. فأما إذ قد طعنت عليّ وابتدأتني بالظلم لما انطويت عليه من عداوتي وقذفتني على غير علم بالباطل بمحضر الجند، فإني قائل بما أعلم من عيبك مبدي الذي أخفيت من دنسك الذي لم يكن معه داع أن تخدم الملك ولا أن تخدم الذي تحته. فحقّ على من عرفك حق المعرفة أن يمنع الملك من استعمالك ويدفعه إلى عزلك عن طعامه.
فلما سمع سيد الخنازير ذلك من دمنة كفّ وتلجلج لسانه واستحيا وكفّ جميع من حضر من الجمع عن القول في شيء من أمره.
وكان بين الحضور شعهر قد جرّبه الأسد فوجد فيه أمانة وصدقاً فاتخذه في خدمته وأمره أن يحفظ جميع ما يجري بينهم ويطلعه عليه. فدخل على الأسد وأعلمه بحديثهم من أوّله إلى آخره دون أن يكتم عنه شيئاً. فلما سمع الأسد ذلك أمر بعزل سيد الخنازير عن عمله ومنعه من الدخول عليه ورؤية وجهه، ثم أمر بدمنة أن يردّ إلى السجن. وكتب ما جرى في محاكمته وختم عليه النمر.
وكان لكليلة في حاشية الأسد صديق يدعى روزبة بينه وبين كليلة إخاء ومودة. وكان عند الأسد وجيهاً وعليه كريماً، فانطلق إلى دمنة وأخبره بموت كليلة الذي قضى إشفاقاً من أن يتلطّخ بشيء من أمر أخيه وحذراً عليه. فبكى دمنة وحزن وقال: ما أصنع بالدنيا بعد مفارقة الأخ الرحيم والصديق الحميم. لقد صدق القائل إن الإنسان إذا ابتلي ببليّة أتاه الشر من كل جانب واكتنفه الهم والحزن من كل مكان. ثم التفت إلى روزبة قائلاً: ولكن أحمد الله تعالى إذ لم يمت كليلة حتى أبقى لي أخاً مثلك. قد وثقت بنعمة الله وإحسانه إليه فيما رأيت من اهتمامك بي ومراعاتك إياي. وقد علمت أنك رجائي وركني فيما أنا فيه. فأريد من فضلك أن تنطلق إلى مكان كذا وكذا فتنظر ما جمعته أنا وأخي كليلة بحيلتنا وسعينا ومشيئة الله تعالى فائتنا به.
ففعل روزبة بما أمره دمنة وأتى بمال كثير وضعه بين يديه. فأعطاه دمنة أكثره وقال: إنك على الدخول والخروج على الأسد إذا شئت أقدر من غيرك فتفرّغ لشأني واصرف اهتمامك إليّ واسمع ما أذكر به عند الأسد إذا رفع إليه ما جرى بيني وبين الخصوم، وما يبدو من أم الأسد من حقي، وما ترى من موافقة الأسد لها ومخالفته إياها في أمري، واحفظ ذلك كله وأعلمني به.
فأخذ روزبة ما أعطاه دمنة وانصرف إلى منزله.
فلما أصبح الأسد من الغد جلس حتى إذا مضى من النهار ساعات استأذن علي أصحابه فأذن لهم فدخل القاضي وطائفة من الوجوه ووضعوا بين يديه كتاب ما قال دمنة في معاذيره. فقبض الأسد ذلك الكتاب وأمرهم بالانصراف عنه.
ثم أرسل إلى أمه فقرأ عليها ذلك الكتاب فشقّ عليها ما سمعت ونادت بأعلى صوتها: إن أنا أغلظت لك أيها الملك فلا تغضب.
قال الأسد: لست أغضب فقولي ما أحببت.
قالت: ما أراك تعرف ما يضرّك مما ينفعك. وإني لأحسب دمنة في طول تصريفك النظر في أمره سيهيّج عليك ما لا تقعد له ولا تقوم. ولهذا كنت أنهاك عن سماع كلام هذا المجرم المسيء لدينا قديماً الغادر بذمتنا. ثم قامت وخرجت وهي غضبانة.
فخرج روزبة في إثرها مسرعاً حتى أتى دمنة فأخبره بما قالت أم الأسد. فلما كان في الغد بعث القاضي إلى دمنة فأخرجه وشاور عليه ثم قال: يا دمنة قد أنبأني بخبرك الأمين الصادق وليس ينبغي لنا أن نفحص عن شأنك أكثر من هذا لأن العلماء قالوا إن الله تعالى جعل الدنيا سبباً ومصداقاً للآخرة، ولأنها دار الرسل والأنبياء الدالين على الخير الهادين إلى الجنة الداعين إلى معرفة الله تعالى. وقد ثبت شأنك عندنا وأخبرنا عنك من وثقنا بقوله. إلا أن سيدنا الأسد أمرنا بالعود إلى أمرك والفحص عن شأنك وإن كان عندنا بيّناً.
قال دمنة: أراك أيها القاضي لم تتعوّد العدل في القضاء وليس في عدل الملوك دفع المظلومين ومن لا ذنب لهم إلى قاض غير عادل، بل يأمرون بمحاكمتهم والذود في حقوقهم. والعلماء لم يقولوا في حقي شيئا.
فقال له القاضي: إنه وإن سكت جميع من حضرك ولم يقولوا شيئاً فإن ظنونهم قد اجتمعت على أنك مجرم ولا خير لك في الحياة بعد استقرار تهمتك في قلوبهم، فلا أرى شيئاً خيراص لك من الإقرار بذنبك فتخرج لعتقك من تبعة الآخرة ويعود لك حسن قول في أمرك لخصلتين: إحداهما قوتك على المخارج وافتعال المعاذير التي تدفع بها عن نفسك، والأخرى إقرارك بذنبك اختياراً للسلامة في الآخرة عن سلامة الدنيا. فإن العلماء قد قالت: إن الموت فيما يجمل خيرٌ من الحياة فيما يقبح.
فأجابه دمنة: إن القضاة لا تقضي بظنونها ولا بظنون العامة ولا الخاصة. وقد علمت أن الظن لا يغني من الحق شيئاً. فإني وإن ظننتم جميعاً أني صاحب هذا الجرم فإني أعلم بنفسي منكم، وعلمي بنفسي يقين لا شك فيه. وإنما قبح أمري في أنفسكم لأنكم ظننتم أني سعيت بغير زوراً، فما عذري عندكم لو سعيت بنفسي كاذباً عليها فأسلمتها لتقتل على معرفة ببراءتها؟ فهي أعظم الأنفس عليّ حرمة وأكرمها حقا. ولو فعلت ذلك بأدناكم أو أقصاكم لم يسعني ذلك في ديني ولم يجمل بي في خلقي. فاكفف إذن عني هذه المقالة. فإن كانت هذه منك نصيحة فقد أخطأت موضعها، وإن كمانت منك خديعة فإن أقبح الخداع ما فطن له. وليس الخداع ولا المكر من أخلاق صالح القضاة. وإلا فاعلم أن قولك هذا حكم منك وسنة لأن كل أمر أمرت به القضاة يحكم بصوابه أهل الصواب ويتخذونه سنة ويصير خطأه عدلاً لأهل الأدغال. وإن من شقاء جدي أيضاَ أنك لم تزل في أنفس الناس فاضلاً في رأيك وفي حكمك حتى أنسيت ذلك في أمري فتركت علم القضاة وانصرفت إلى العمل بالظنون التي تختلف بها الحالات في الأمور. أو ما بلغك عن العلماء أنهم قالوا: من ادعى علم ملا لا يعلم وشهد بالغيب أصابه ما أصاب البازيار القاذف عبد مولاه.
قال القاضي: وكيف كان ذلك؟
قال دمنة: زعموا أنه كان في بعض المدن رجل من المرازبة مذكور وكان له عبد صالح جعله وكيله يأتمنه على كل خزائنه. وكان للرجل بازيار ماهر خبير بسياسة البزاة وعلاجها. وكان البازيار عند المرزبان بمكان جليل بحيث أدخله داره وأجلسه مع أهله. فاتفق أن البازيار حسد عبد الرجل وفكّر له الشر ليطرده مولاه. فعمل الحيلة في بلوغ غرضه فضاقت عليه أبواب الحيل وتعذّرت عنه الأسباب. فخرج يوماً إلى الصيد على عادته، فأصاب فرخي ببغاء فأخذهما وجاء بهما إلى منزله ورباهما، فلما كبرا فرّق بينهما وجعلهما في قفصين وعلّم أحدهما أن يقول: رأيت الوكيل يختلس مال سيده خفية. وعلّم الآخر أن يقول: هذا صحيح ثم أدبهما على ذلك مدة حتى حذقاه وأتقناه.
فلما بلغ منهما ما أراده إلى أستاذه. فلما رآهما أعجباه ونطقا بين يديه فأطرباه. إلا أنه لم يعمل ما يقولان لأن البازيار كان علّمهما ذلك بلغة العجم التي يجهلها المرزبان. وكان هذا مولعاً بالببغاءين يلهو بهما. وحظي البازيار عنده بذلك حظوة عظيمة وأمر امرأته بالمراعاة لهما والاحتياط عليهما والتعاهد لطعامهما وشربهما.
واتفق بعد مدة أن قدم على المرزبان قوم من أعاظم أعاجم بلخ فتأنق لهم بالطعام والشراب وقدم لهم من اصناف الفواكه والتحف شيئاً كثيراً. ولما فرغوا من الأكل وشرعوا في الحديث أشار إلى البازيار أن يأتي بالببغاءين فأحضرهما. فلما صاحا بين يديه وسمعهما الضيوف عرفوا ما يقولان ونظر بعضهم إلى بعض.
فسألهم الرجل عما قالتا فامتنعوا أولا، فألح عليهم بالسؤال إلى أن أقروا قائلين: إنما تقولان كذا وكذا بحق عبدك وكيل أموالك. فلما قالوا ذلك أمرهم المرزبان أن يكلموا الطيرين بغير ما نطقا به ففعلا ذلك ولم يجدوهما تعرفان غير ما تكلمتا به، وبان للرجل والجماعة براءة الوكيل مما رمي به وثبت كذب البازيار الذي علمهما ذلك فانتهره الوكيل: أيها العدو لنفسه أأنت رأيتني أختلس مال سيدي وأخفيه؟ قال: نعم أنا رأيتك. فلما قا لذلك وثب باز عن يده إلى عينيه ففقأهما. فقال العبد. بحق أصابك هذا، إنه لجزاء من الله تعالى لشهادتك بما لم تره عيناك.
وإنما ضربت لك هذا المثل أيها القاشي لتزداد علماً بوخامة عاقبة الشهادة بالكذب في الدنيا والآخرة. فلما سمع القاضي والحضور احتجاج دمنة كتبوا ذلك كله ورفعوه إلى الأسد، فنظر فيه ودعا أمه فعرض ذلك عليها فكان من قولها أن قالت: لقد صار اتهامي بأن يحتال لك دمنة بمكره ودهائه حتى يتلك أن ينقض عليك أمرك أعظم من اهتمامي بما سلف من ذنبه إليك من الغش والسعاية بوزيرك وصفيّك حتى قتلته بغير ذنب. فوقع قولهما في نفس الأسد فقال لها: أخبرني عن الإنسان الذي أنبأك بما سمع من كلام كليلة ودمنة، فإن قتلته ذلك حجة على دمنة.
قالت: إني أكره أن أفشي سراً استظهرت عليه بركوب ما نهت عنه العلماء من كشف الأسرار، ولكني سأطلب إلى الذي ذكر لي ذلك أن يحللني من ذكره لك أو أن يفوه هو بما علم وما سمع.
ثم انصرفت فأرسلت إلى النمر فأتاها، فذكرت له فضل منزلته عند الأسد وما يحق عليه من تربيته وحسن معاونته على الحق وإخراج نفسه من الشهادة التي لا يكتمها مثله مع ما يحق عليه من نصرة المظلومين والمعاونة على تثبيت حجّتهم يوم القيامة. فلم تزل به حتى جاء فشهد على دمنة بما سمع من كلامه وكلام كليلة.
ولما شهد النمر على دمنة بذلك، أرسل الفهد المسجون الذي سمع قول كليلة لدمنة ليلة دخل عليه في السجن أن عندي شهادة فأخرجوني لها. فبعث إليه الأسد فشهد على دمنة بما سمع من قول كليلة وتوبيخه إياه بدخوله بين الأسد والثور بالكذب والنميمة حتى قتله الأسد وإقرار دمنة بذلك.
قال له الأسد: فما منعك أن تكون أعلمتنا بشهادتك عن دمنة حين سمعت ذلك منه.
قال الفهد: منعني من ذلك أن شهادتي وحدي لم تكن توقع حكماً ولا تحجّ خصماً، فكرهت القول في غير منفعة.
فاجتمعت على دمنة شهادتان فأرسلهما الأسد إلى دمنة ثم بكّته الشاهدان في وجهه بمقالته فأمر به الأسد فغلّظ عليه الوثاق ثم ترك في السجن حتى مات جوعاً. فهذا ما صار إليه أمر دمنة وكذلك تكون عواقب البغي ومواقع أهل الحسد والكذب.
باب الغراب والمطوقة والجرذ والسلحفاة والظبي
قال الملك لبيدبا: قد سمعت مثل المتحابين يقطع بينهما الخؤون المحتال. فاضرب لي مثل إخوان الصفا، وكيف يكون بدء تواصلهم واستماع بعضهم من بعض.
قال العالم العاقل: إنه لا يعدل بصالح الإخوان شيء من الأشياء لأن الإخوان هم الأعوان على الخير كله والمؤاسون عند الشدائد. ومن أمثال ذلك مثل الغراب والحمامة المطوقة والجرذ والسلحفاة والظبي.
قال الملك: وكيف كان ذلك؟
قال الفيلسوف: زعموا أنه كان بأرض من الأرضين مكان كثير الصي يتصيد فيه الصيادون، وكان في ذلك المكان شجرة عظيمة كبيرة الغصون متلفة الورق، وكان فيها وكر غراب. فبينما الغراب ذات يوم على الشجرة إذ أبصر رجل من الصيادين قبيح المنظر، سيء الحال، على عاتقه شرك يحمله، وفي يده عصا، مقبلاً نحو الشجرة، فذُعر منه الغراب وقال: لقد ساق هذا الرجل إلى هذا المكان أمر فسأنظر ماذا يصنع. فأقبل الصياد فنصب شركه ونثر حبّه وكمن في مكان قريب، فلم يلبث إلا قليلاً حتى مرت به حمامة يقال لها المطوقة، وكانت سيدة حمام كثير وهنّ معها. فأبصرت المطوقة وسربها الحبّ ولم يبصرن الشرك فوقعن فيه جميعاً. ثم أقبل الصياد إليهن مسرعاً فرحاً بهن. وانفردت كل حمامة منهن عن ناحيتها تعالج نفسها لتفرّ. فقالت لهن المطوقة: لا تتخاذلن في المعالجة، ولا تكونن نفس واحدة منكن أهم إليها من نفس صاحبتها، ولكن لنتعاون جميعاً لعلنا نقتلع الشرك فينجي بعضنا بعضاَ. ففعلن ذلك واقتلعن الشرك، فطرن به في السماء وتبعهن الصياد، وظن أنهن لن يتجاوزن قريباً حتى يثقلهن الشرك فيقعن.
فقال الغراب: لأتبعهن حتى أنظر إلى ما يصير أمرهن وأمر الصياد. والتفتت المطوقة فرأت الصياد يتبعهن، لم ينقطع رجاؤه منهن، فقالت لصواحبها، إني أرى الصياد جاداّ في طلبكن، فإن استقمتنّ في الفضاء لن تخفين عليه. ولكن توجّهن إلى الخير والعمران، فإنه لن يلبث أن يخفى عنه منتهاكن فينصرف آئساً منكن. وأنا أعرف فيما بلينا به مكاناً قريباً من العمران والريف فيه جحر جرذ، وهو صديق لي، فلو انتهينا إليه قطع عنا هذا الشرك وما عنّفنا منه.
فتوجهن حيث قالت المطوقة، فخفين من الصياد، وانصرف آئساً منهن. ولم ينصرف الغراب بل أراد أن ينظر هل لهن حيلة يحتلنها للخروج من الشرك فيتعلمها، وتكون له عدة لأمر إن كان.
فلما انتهت المطوقة بهن إلى الجرذ أمرت الحمام بالوقوع فوقعن، ووجدن حول جحر الجرذ منئة ثقب أعدها للمخاوف، وكان مجرباً للأمور داهية. فنادته المطوقة باسمه، وكان اسمه أيزك، فأجابها الجرذ من جحره قائلا: من أنت؟ قالت أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها مسرعاً. فلما رآه في الشرك قال لها: ما أوقعك في هذه الورطة وأنت من الأكياس؟
قالت المطوقة: ألم تعلم ما يفعل الجهل في عقل المرء؟ فإن الغباوة أوقعتني في هذه الورطة، وهي التي رغّبتني في الحب وأعمت بصري عن الشرك حتى لججت في أنا وأصحابي. وليس أمري وقلة امتناعي من مصائب الدهر بعجيب، فقد لا ينجو منها من هو أقوى مني وأعظم شأناً. قد تًكسف الشمس والقمر إذا قضي عليهما ذلك، وقد تصاد الحيتان في الغمر ويستنزل الطير الذي يحول دون الحازم وطلبته.
ثم إن الجرذ أخذ بقرض العقد التي كانت فيها المطوقة. فقالت له المطوقة: ابدأ بعقد صواحبي ثم أقبل على عقدي. فأعادت عليه القول مرارا، كل ذلك والجرذ لا يلتفت إلى قولها، ثم قال لها: قد كررت علي هذه المقالة كأنك ليست لك بنفسك رحمة ولا ترين لها حقا.
فقالت المطوقة: لا تلمني على ما أمرتك به، فإنه لم يحملني على ذلك إلا أني تلكفت الرئاسة على جماعة هؤلاء الحمام، فلذلك لهن علي حق، وقد أدّين إليّ حقي في الطاعة والنصيحة، وبطاعتهن ومعونتهن نجّانا الله من صاحب الشرك. وتخوّفت، إن أنت بدأت بقطع عقدي، أن تملّ وتكسل عند فراغك من ذلك عن بعض ما بقي من عقدهن. وعرفت أنك، إن بدأت بهن وكنت أنا الآخرة، أنك لا ترضى، وإن أدركك الفتور والملل أن تدع معالجة قطع وثاقي عني.
قال الجرذ: وهذا مما يزيد أهل المودة لك والرغبة فيك رغبة ووداً.
ثم أخذ الجرذ في قرض الشبكة حتى فرغ منها، وانطلقت المطوقة وحمامها إلى مكانهن راجعات آمنات.
فلما رآى الغراب صنيع الجرذ وتخليصه الحمام، رغب في مصادقة الجرذ وقال: ما أنا من مثل ما أصاب الحمام بآمن، ولا أنا عن الجرذ ومودته بغنىً.
فدنا من جحر الجرذ، ثم ناداه باسمه فأجابه الجرذ: من أنت؟
قال: أنا غراب كان من أمري كيت وكيت، وإني رأيت من أمرك ووفائك لأخلائك الحمام ما رأيت، فتبين لي صفاء ودّك وحسن صداقتك فرغبت في إخائك، وجئتك لذلك.
قال الجرذ: ليس بيني وبينك سبب تواصل، وإنما ينبغي للعاقل أن يطلب ما يجد إليه سبيلاً ويترك ما طلب ما لا يكون، لئلاً يعد جاهلاً فيشيه رجلاً أراد أن يجري السفن في البرّ والعجل على الماء. وكيف يكون بيني وبينك تواصل وإنما أنا طعام لك؟
قال الغراب: اعتبر بعقلك أن أكلي إياك، وإن كنت لي طعاماً، لا يغني عني شيئا، وأن بقاءك ومودتك أيسر لي وآمن ما بقيت. ولست حقيقاّ إذ جئت أطلب مودتك أن ترجعني خائباً، فإنه قد زهر لي حسن خلقك، وإن كنت لا تلتمس ظهوراً. فإن ذا العقل لا يخفى فضله وإن هو أخفى ذلك جهده، كالمسك الذي يكتم وختتم ثم لا يمنع ذلك ريحه من الفيوح، وعبيره من الانتشار. فلا تغلّبنّ عليك خلقك، ولا تمنعني ودّك وملاطفتك.
قال الجرذ: إن أشد العداوة عداوة الجوهر، وهما عداوتان: منها عداوة متحاذية متكافئة كعداوة الفيل والأسد، فإنه ربما قتل الأسد الفيل، وربما قتل الفيل الأسد. ومنها عداوة الجوهر يحصل ضرّها من أحد الجانبين على الآخر كعداوة ما بيني وبين السنّور وكعداوة ما بيني وبينك، فإن العداوة مني ليس بضر مني عليكما، ولكنها للضر عليّ منكما. وليس لعداوة الجوهر من صلح، فإن الماء، وإن أسخن وأطيل إسخانه، فليس يمنعه ذلك من إطفاء النار إذا صبّ عليها. وإنما صاحب المصالح كصاحب الحية يحملها في كمّه. وليس يستأنس العاقل إلى العدو، ولا يسترسل إليه، وإن كان عاقلاً آربيا.
قال الغراب: قد فهمت ما تقول، وأن حقيق أن تأخذ بفضل خليقتك وتعرف صدق مقالتي ولا تصعّب الأمر فيما بني وبينك بقولك: “ليس لنا إلى التواصل سبيل”. فإن العقلاء الكرماء يبتغون إلى كل معروف وصلة وسبيلاً. والمودة بين الصالحين بطيء انقطاعها، سريع اتصالها. ومثل ذلك مثل الكوز من الذهب الذي هو بطيء الانكسار، هيّن الإعادة والإصلاح إن أصابه كسر. والمودة بين الأشرار سريع انقطاعهما، بطيء اتصالها، كالكوز من الفخار يكسره أدنى عيب، ثم لا وصل له أبدا. والكريم يود الكريم على لقاء واحد أو معرف يوم، واللئيم لا يصل أحداً إلا عن رهبة أو رغبة. وأنت كريم وأنا إلى ودك محتاج، وأنا لازم بابك وغير ذائق طعاما حتى تؤاخيني وتواصلني.
قال الجرذ: قد قبلت إخاءك. فإني لم أردد ذا حاجة قط عن حاجته، وإنما ابتدأتك بما ابتدأتك به للاعتذار عن نفسي. فإن أنت غدرت بي لا تقل: وجدت الجرذ ضعيف الرأي، سريع الانخداع.
ثم خرج من جحره، فقام عند الباب، فقال له الغراب: ما يحبسك عند باب الجحر؟ وما يمنعك من الخروج إلي والاستئناس بي؟ أفي نفسك ريبة بعد؟
قال الجرذ: إن أهل الدنيا يتعاطون بينهم أمرين، يتواصلون عليهما، وهما ذات النفس وذات اليد. فأما المتبادلون ذات النفس فهم الأصفياء المتخالصون. وأما المتبادلون ذات اليد فهم المتعاونون والمستمتعون الذين يستمع بعضهم بالانتفاع من بعض. ومن كان يصنع المعروف التماس الجزاء أو اكتساباً لبعض منافع الدنيا، فإنما مثله فيما يعطي ويمنع مثل الصياد وإلقائه الحب للطير لا يريد به نفعها، ولكن يريد نفع نفسه. فتعاطي ذات النفس أفضل من تعاطي ذات اليد. فإني قد وثقت بذات النفس ومنحتك مثل ذلك من نفسي. وليس يمنعني من الخروج إليك سوء ظن، ولكني قد عرفت أن لك أصحاباً جوهرهم كجوهرك، وإنما رأيهم فيّ ليس كرأيك، فأنا أخاف أن يراني بعضهم معك فيهلكني.
قال الغراب: إن من علامة الصديق أن يكون لصديق صديقه صديقاً، ولعدو صديقه عدوا، وإنه ليس لي بصاحب ولا صديق من لم يكن له محبا. وإنما تهون عليّ قطيعة من كان كذلك، لأن زارع الريحان إذا نبت في ريحانه شيء من النبات الذي يضرّ به ويفسده اقتلعه واقتلع من ريحانه معه.
ثم إن الجرذ خرج إلى الغراب، فتصافحا وتعانقا وتصافيا، واستأنس كل واحد منهما بصاحبه، فأقاما على ذلك أياما إلى ما شاء الله.
ومضت بينهما على ذلك مدة من الدهر، حتى قال الغراب يوماً للجرذ: إن جحرك قريب من طريق الناس، وأنا أخشى على نفسي من ذلك، وقد عرفت مكاناً ذات عزلة وخير وبركة، ولي فيه صديق من السلاحف، وهناك عين كثيرة السمك، وأنا واجد عندها ما آكل، وأريد أن أنطلق إليها فأعيش معها آمنا.
قال الجرذ: وأنا أحب أن أنطلق معك فإني لمكاني هذا كاره.
قال الغراب: وما تكره من مكانك؟
قال الجرذ: إن لي أخباراً وقصصاً سأقصها عليك لو انتهينا إلى المكان الذي تريد.
فأخذ الغراب بذنب الجرذ، فطار به حتى بلغ حيث أراد. فلما دنا من المكان الذي فيه السلحفاة، ورأت السلحفاة غراباً ومعه جرذ ذعرت منه، ولم تعلم أنه صاحبها، فغاصت في الماء، فوضع الغراب الجرذ، وقعد على شجرة فنادى السلحفاة باسمها، فعرفت صوته وخرجت إليه، ورحّبت به وسألته من أين أقبل. فأخبرها الغراب بقصته وقصة الصياد حين تبع الحمام، وخلاص المطوقة بواسطة الجرذ، وما كان من أمره بعد ذلك وأمر الجرذ حتى انتهينا إليها.
فلما سمعت السلحفاة شأن الجرذ تعجبت من عقله ووفائه، ورحبت به وقالت: ما ساقك إلى هذه الأرض؟
فقال الغراب للجرذ: ارو لنا الأخبار والقصص التي زعمت أنك تحدثني بها فاقصصها الآن إذ سألتك السلحفاة عنها، فإن السلحفاة منك بمثل منزلتي.
قصة الجرذ والناسك
بدأ الجرذ في قصصه وقال: كان أول منزل نزلته في مدينة من المدائن في بيت رجل من النساك. ولم يكن للناسك عيال. وكان يُؤتى كل يوم بسلة من الطعام، فيأكل منها حاجته ثم يضع بقية الطعام فيها ويعلقها في البيت. فكنت أرصد الناسك حتى يخرج، فإذا خرج وثبت إلى السلة فلم أدع فيها طعاماً إلا أكلته، ورميت به غلى الجرذان. وجهد الناسك مراراً ليعلق تلك السلة معلّقاً لا أناله فلم يقدر على ذلك. ثم إن ضيفاً نزل بالناسك ذات ليلة فتعشيا جميعاً، حتى إذا كان عهد الحديث قال الناسك للضيف: من أي أرض أنت وأين توجهك الآن؟ وكان الضيف رجلاً قد طاف الأرض، ورأى العجائب فأخذ يحدث الناسك بما وطئ من البلدان ورأى من الأمور. وجعل الناسك من خلال ذلك يصفق بيديه أحياناً لينفّرني عن السلة. فغضب الضيف وقال: أحدثك وتصفّق كأنك تهزأ بحديثي، فما حملك على أن تسألني؟ فاعتذر الناسك للضيف وقال: إني قد أنصت لحديثك، ولكني قد صفّقت لأنفّر الجرذان عن سلة طعامي، ولقد تحيّرت في أمرها. لست أضع في البيت طعاماً إلا أكلته.
قال الضيف: أجرذ واحد هو أم أكثر؟
قال الناسك: بل جرذان كثيرة، وفيها جرذ واحد هو الذي غلبني فلا أستطيع له حيلة.
قال الضيف: ما هذا الأمر؟ إنه ليذكرني قول الرجل الذي قال لامرأته: لأمر ما باعت هذه المرأة السمسم مقشوراً
تعليقات
إرسال تعليق