التخطي إلى المحتوى الرئيسي

قصة الباب السادس

 مثل الرجل الهارب من الموت


كالذي قيل إن رجلاً سلك مفازة فيها خوف من السباع وكان الرجل خبيراً بوعث تلك الأرج وخوفها. فلما سار غير بعيد اعترض له ذئب من أحد الذئاب وأضراها. فلما رأى الرجل أن الذئب قاصد نحوه اشتد وجعله ونظر يميناً وشمالاً ليجد موضعاً يتحرّز فيه من الذئب فعاين قرية على شاطئ نهر خلف واد فقصدها.


فلما انتهى إلى النهر لم يجد عليه قنطرة ليقطعه والذئب كان يدركه فقال: كيف أمتنع من الذئب والنهر عميق وأنا لا أحسن السباحة على أني ألقي نفسي في الماء. فلما نزل في النهر كاد يغرق فرآه قوم من أهل القرية فأرسلوا إليه من استخرجه وقد أشرف على الهلكة فنجا من الذئب ومن الغرق. ثم رأى على شاطئ الوادي بيتاً منفرداً فقال أدخل هذا البيت فأستريح فيه. فلما دخله وجد جماعة من اللصوص قد قطعوا الطريق على رجل من التجار وهم يقتسمون ماله ويريدون قتله. فخاف الرجل على نفسه ومضى نحو القرية فأسند ظهره إلى حائط من حيطانها ليستريح مما حل به من الهول والإعياء، فسقط الحائط عليه فقتله. قال التاجر: صدقت وقد بلغني هذا الحديث.


ثم إن الثور المدعو شتربة انبعث من مكانه فلم يزل يدب حتى انتهى إلى مرج مخصب كثير الماء والكلإ فأقام فيه، فلم يلبث أن سمن وأمن فجعل يزأر ويخور ويرفع صوته بالخوار.


وكان قربه أسد هو ملك تلك الناحية، ومعه سباع كثيرة من الذئاب وبنات آوى والثعالب وسائر السباع. وكان الأسد مزهواً منفرداً برأيه، ورأيه غير كامل. فلما سمع الأسد خوار الثور، ولم يكن رأى ثوراً قط ولا سمع خواره، رعب وكره أن يفطن لذلك جنده فأقام بمكانه ذلك لا يبرح وجهاً. وكان ممن معه ابنا آوى يقال لأحدهما كليلة وللآخر دمنة، وكلاهما ذو أدب ودهاء. وكان دمنة شرّهما نفساً وأشدّهما تطلعاً إلى الأشياء، ولم يكن الأسد عرفهما. فقال دمنة لكليلة. ما ترى يا أخي شأن هذا الأسد مقيماً بمكان واحد لا يبرح ولا ينشط فيأتيه جنده كل يوم بطعامه؟ فقال كليلة: ما لك والمسألة عما ليس من شأنك؟ أما حالنا نحن فحال صدق ونحن بباب ملك واحد واجدين ما نأكل ولسنا من أهل الطبقة التي يتناول أهلها كلام الملوك وينظرون في أمورهم. فاسكت عن هذا واعلم أنه من تكلف من القول والفعل ما ليس من شأنه أصابه ما أصاب القرد.


قال دمنة: وكيف كان ذلك؟


مثل الناسك واللص والثعلب وامرأة الإسكاف


قال كليلة: زعموا أن ناسكاً أصاب من بعض الملوك كسوة فاخرة فبصُرَ به لص من اللصوص فرغب في الكسوة التي كسيها الناسك، فانطلق إليه قائلاً: إني أريد أن أصحبك وأتعلم منك وآخذ من أدبك. فصحبه متشبّهاً بالنساك. وكان يرفق بالناسك ويتلطف في خدمته ويوقره حتى أصاب منه غفلة فاحتمل تلك الكسوة فذهب بها. فلما فقد الناسك الرجل والثياب عرف أنه صاحبه، فطلبه في مظانّه حتى توجه في طلبه نحو مدينة من المدائن. فمرّ في طريقه على وعلين يتناطحان فطال انتطاحهما حتى سالت الدماء منهما. فجاء الثعلب يلغ في تلك الدماء. فبينما هو مكبّ عليها إذ التفّ عليه الوعلان ينطحانه وهو غافل فقتلاه.


ومضى الناسك حتى انتهى إلى المدينة فدخلها ممسياّ. ولم يجد مأوىً ولا مبيتاً إلا بيت امرأة أرملة فنزل بها. وكان لتلك المرأة عبد يتاجر بمالها، فعرفت أنه يخونها ويضرها فاضطغنت عليه واحتالت لقتله ليلة أضافت الناسك. فسقّت العبد من الخمر صرفاً حتى غلب فنام. فلما استثقل نوما عمدت المرأة إلى سمّ كانت قد هيّأته فجعلته في قصبة لتنفخه في أنفه. فوضعت إحدى طرفي القصبة في أنفه والطرف الآخر في فيها. فبدره من قبل أن تنفخ في القصبة عطاس خرج من أنفه فطار ذلك السم في حلق المرأة فوقعت ميتة، وذلك كله بعين الناسك. ثم أصبح غادياً في طلب ذلك اللص فأضافه رجل إسكاف وقال لامرأته: انظري هذا الناسك فكرّميه وأحسني القيام عليه فإنه قد دعاني بعض أصحابي إلى دعوة. فاطلق الإسكاف.


وكان بين المرأة وزوجة رجل حجّام صداقة فأرسلت إليها تدعوها إلى وليمة وتخبرها أن زوجها عند أصحابه، وأنه لا يرجع إلا سكران في منتصف الليل، فلهمي لنقضي بعض ساعات في القصف. إلا أن الإسكاف عاد بعد قليل وطلب العشاء وكانت امرأته تقاعدت عن تهيئته لتستعد لاستقبال صديقتها امرأة الحجّام. فاعتذرت له فلم يقبل عذرها فأقبل عليها وضربها ضرباً مبرحاً وأوثقها إلى سارية في البيت وذهب ونام لا يعقل.


ثم جاءت امرأة الحجام بعد ساعة لمسامرة صديقتها امرأة الإسكاف فوجدتها مربوطة، فقالت لها: إن زوجي عاد قبل أوانه وربطني بهذه السارية فإن شئت أن تحسني إليّ وتحليّني ربطتك مكاني حتى أعد الوليمة كما وعدتك. ففعلت امرأة الحجام ذلك. فاستيقظ الإسكاف قبل رجوع امرأته فناداها في الظلام مراراً باسمها فلم تجبه امرأة الحجام مخافة أن يعرف صوتها. ثم دعاها وسمّاها مراراً. كل ذلك وامرأة الحجّام لا تجيبه فازداد غضبا، وقام إليها بالسكين واحتزّ أنفها وقال لها: خذا هذا جزاء عنادك، وهو لا يشك في أنها امرأته.


ثم رجعت امرأة الإسكاف فرأت صنع زوجها بامرأة الحجام فساءها ذلك وحلت وثاقها وأوثقت نفسها مكانها وأخذت الأخرى أنفها وانطلقت إلى بيتها خائبة. كل ذلك بعين الناسك وسمعه.


ثم إن امرأة الإسكاف رفعت صوتها فدعت ربها وتضرعت إليه وجعلت تبتهل وتقول: اللهم إن كان زوجي قد ظلمني فأعي عليّ أنفي صحيحاً. فقال لها زوجها: ما هذا الكلام يا ساحرة. فقالت: قم أيها الظالم فانظر إلى عملك وتغيير الله عليك ورحمته إياي، فها قد عاد إلي أنفي صحيحاً. فقام وأوقد ناراً ونظر إلى امرأته فوجد أنفها صحيحاً فباء بالذنب إلى ربه واعتذر إلى امرأته وسألها ان ترضى عنه.


أما امرأة الحجام فلما انتهت إلى بيتها حارت في أمرها وقالت: ما عذري عند زوجي وعند الناس في جدع أنفي؟ فلما كان السَّحر استيقظ زوجها فناداها أن ائتيني بمتاعي فإني أريد أن أحجم بعض أشراف المدينة. فلم تأته من متاعه بشيء إلا بالموسى. فغضب الحجام فرماها بالموسى في الظلمة فرمت بنفسها إلى الأرض وصرخت وولولت: أنفي.. أنفي. فلم تزل تصيح حتى جاء أهلها وذو قرابتها فانطلقوا بزوجها إلى القاضي فقال له: ما حملك على جدع أنف امرأتك؟ فلم يكن له حجة يحتج بها فأمر القاضي بالحجام أن يعاقب.


فلما قدّم للعقوبة قام الناسك فتقدم إلى القاضي وقال له: لا يشتبهنّ عليك أيها القاضي، فإن اللص ليس هو من سرقني، وإن الثعلب ليس الوعلان قتلاه، وإن الأرملة ليس السم قتلها، وإن امرأة الحجام ليس زوجها جدعها، بل نحن جميعاً فعلنا ذلك بأنفسنا. فسأله القاضي عن تفسير ذلك فأخبره، فأمر القاضي بإطلاق الحجام.


قال كليلة لدمنة: وأنت أيضا فإنما فعلت ذلك بنفسك.


قال دمنة: قد سمعت هذا المثل وهو شبيه بأمري. ولعمري ما ضرني أحد سوى نفسي، ولكن ما الحيلة الآن؟


قال كليلة: أخبرني أنت عن رأيك في ذلك؟


قال دمنة: أما أنا فلست ألتمس اليوم إلا أن أعود إلى منزلي. فإن خلالاً ثلاثاُ للعاقل حقيق بالنظر فيها والاحتيال له: منها النظر فيما مضى من الضر والنفع فيحترس من الضر الذي أصابه أن يعود إليه ويعمل الطيب لالتماس النفع الذي مضى عليه ويحتال لاستقباله. ومنها النظر فيما هو مقيم عليه من المنافع والمضار فيعمل في تلك المنافع والاستثمار منها لئلا تزول عنه، والخروج من تلك المضار جهده. ومنها النظر في مستقبل ما يرجو من قبل النفع وما يتخوف من قبل الضر ثم التأني لما يرجو من ذلك والتوقي لما يخاف منه. وإنما نظرت في الأمر الذي أرجو أن تعود به منزلتي التي كنت عليها فلم أجد لذلك إلا الاحتيال على الثور حتى يفارق الحياة. فإن ذلك صالح لأمري، وعسى مع ذلك أن أكون خيراً للأسد منه، فإنه قد أفرط في أمر الثور إفراطاً قد هجّن رأيه فأضغن عليه عامة قرائبه.


قال دمنة: بلى إن الأسد قد أغرم بالثور إغراما شديدا حتى استخف بغيره من نصحائه وقطع عنهم منافعه. وإنما يؤتى السلطان من قبل ستة أشياء: منها الحرمان والفتنة والهوى والفظاظة والزمان والخُرق. فأما الحرمان فإنه يحرم صالح الأعوان والنصحاء والساسة من أهل الرأي والنجدة والأمانة، ويبعد من هو كذلك منهم. وأما الفتنة فهو يجر الناس إلى وقوع الفتن والحرب بينهم. وأما الهوى فالإغرام بالنساء والحديث أو بالشراب أو بالصيد وما أشبه ذلك. وأما الفظاظة فإفراط الحدة حتى يجمح اللسان بالشتم واليد بالبطش في غير موضعهما. وأما الزمان فهو ما يصيب الناس من الشر والموتان والغربق ونقص الثمرات وأشباه ذلك. وأما الخرق فإعمال الشدة في موضع اللين، واللين في موضع الشدة. وغن الأسد قد أغرم بالثور إغراماً شديدا، وهو الذي ذكرت لك أنه خليق أن يشينه ويضره في أمره.


قال كليلة: وكيف تطيق الثور وهو أشد منك وأكرم على الأسد وأكثر أصدقاء.


قال دمنة: لا تنظرن إلى صغري وضعفي، فإن الأمور ليست تجري على القوة والشدة والضعف. وكم من صغير ضعيف قد بلغ بحيلته ودهائه ورأيه ما يعجز عن الأسد. أولم يبلغك أن غراباً احتال لأسود حتى قتله برفقه ورأيه.


قال كليلة: وكيف كان ذلك؟


مثل الغراب والأسود وابن آوى


قال دمنة: زعموا أن غراباً كان له وكر في شجرة في الجبل وكان قربه حجر ثعبان أسود. وكان إذا أفرخ الغراب في كل سنة ذهب الأسود إلى وكره فأكل فراخه. فلما فعل ذلك به مرات وبلغ من الغراب كل مبلغ، شكا أمره إلى صديق له من بني آوى، فقال له: أردت أن أستأمرك في شيء هممت به إن واطأتني عليه. فقال: وما هو؟ قال: أريد أن آتي الأسود فأفقأ عينيه. قال ابن آوى: بئس الحيلة احتلت، فالتمس حيلة تظفر بها من الأسود في غير إهلاك لنفسك ولا مخاطرة. وإياك أن يكون مثلك مثل المكّاء الذي أراد قتل السرطان فقتل نفسه.


قال الغراب: وكيف كان ذلك؟


مثل المكّاء والسرطان


قال ابن آوى: كان المكاء معششا في أجمة مخصبة كثيرة السمك فعاش هناك ما عاش. ثم كبر فلم يستطع الصيد فأصابه جوع شديد وجهد فالتمس الحيل وقعد متحازناً، فرآه سرطان من بعد فدنا منه وقال له: ما لي أراك قد علتك الكآبة؟ قال المكاء: وكيف لا أكون كذلك وإنما كانت عيشتي إلى اليوم مما أصيد هاهنا من السمك كل يوم سمكة أو سمكتين فكنت أعيش بذلك، وكان ذلك لا ينقص السمك كثيرا. وإني رأيت اليوم صيادين أتيا هذا الموضع فقال أحدهما لصاحبه: أرى في هذه الأجمة سمكا كثيرا نصيد لمدة. فقال صاحبه: إني قد عرفت في ما أمامنا مكانا فيه السمك أكثر، وانا أحب أن نبدأ به، فإذا فرغنا منه انصرفنا إلى ما هاهنا فنقيم عليه حتى نفرغ منه. وقد علمت أنهما إذا رجعا مما توجها له انصرفا إلينا فلم يدعا في هذه الأجمة سمكة إلا صاداها. فإذا كان ذلك كذلك فهو موتي.


فانطلق السرطان إلى جماعة السمك فأخبرهن بذلك فأقبلن إلى المكاء يستشرنه فقلن له: إنا قد أتيناك نستشيرك فأشر علينا، فإن ذا العقل لا يدع مشورة عدوه إذا كان ذا رأي في الأمر يشير بما فيه نفعه أو ضره. وأنت ذو رأي، ولك في بقائننا صلاح ونفع، فأشر علينا. قال المكاء: أما قتال الصيادين ومكابرتهما فلا طاقة لي بهما، ولا أعلم حيلة. إلا أني قد علمت موضعا فيه غدير كثير الماء، وفيه قصب. فلو استطعتن التحول إلى ذلك الغدير كان فيه صلاحكن وخصب بكن. قلن: وكيف لنا بالتحول إلا أن تجتاز بنا إليه؟ قال: فإني سأفعل ولكن في ذلك إبطاء، ولعل الصيادين لا يحتبسان عني حتى أفرغ من نقلكن. فجعل المكاء يحمل كل يوم سمكتين فينطلق بهن إلى بعض التلال فيأكلهن ولا يشعر بذلك بقيتهن حتى كان ذات يوم وقال له السرطان: إني قد أشفقت من مكان هذا فاحملني إلى ذلك الغدير. فحمل المكاء السرطان حتى أتى بعض الأماكن التي كان يأكل السمك فيها. فنظر السرطان فإذا عظام كثيرة من عظام السمك، فعلم أن المكاء صاحبها وأنه يريد به مثل ما صنع بالسمك، فقال في نفسه: إن اللاقي إذا لقي عدوه في الموطن الذي يعلم أنه مقتول فيه إن قاتل أو لم يقاتل فإنه حقيق ألا يلقي بنفسه في التهلكة، ولكن يقاتل كرماً وحفاظاً. فأهوى السرطان بكلبتيه إلى عنق المكاء فعصره عصرة وقع منها إلى الأرض ووقع السرطان معه فمات المكاء وخرج السرطان يدب حتى رجع إلى السمك فأخبرهن الخبر.


قال ابن آوى للغراب: إنما ضربت لك هذا المثل لتعلم أن بعض الحيل مهلكة للمحتال، ولكني أدلك على أمر إن أنت قدرت عليه كان فيه هلاك الأسود وراحتك منه.


قال الغراب: وما ذلك؟


قال: أن تطير فتنظر لعلك أن تظفر بحلي من حلي النساء نفيس عند أهله فتختطفه ثم تطير به قريبا، فلا تبرح واقفا وطائرا حتى لا تفوت العيون وتطلبك النساء وتنتهي بالحلي إلى جحر الأسود فترمي به عنده. فإذا انتهى الناس إلى حليهم أخذوه وأراحوك من الأسود. فانطلق الغراب حتى أشرف على امرأة في حجرة لها قد وضعت ثيابها وحليها وهي تغتسل فاختطف من حليها عقدا، فلم يزل يطر به ويقع حيث يراه الناس حتى انتهى إلى جحر الأسود فرمى به عليه، فهجم الناس على الأسود فقتلوه وأخذوا العقد.


قال دمنة لكليلة: إنما ضربت هذا المثل لتعلم أن الحيلة تفعل ما لا تفعل القوة.


قال كليلة: إن الثوة لو لم يكن جمع مع شدته رأيا لكان ذلك، ولكنه مع نجدته ذو رأي وعقل فكيف ذلك به؟


قال دمنة: إن الثور شديد في قوته ورأيه ولكنه بي مغتر ولي آمن. فأنا خليق أن أصرعه كما صرعت الأرنب الأسد.


قال كليلة: وكيف كان ذلك؟


مثل الأرنب والأسد


قال دمنة: زعموا أن أسداً كان في أرض كثيرة الماء والخصب، وكان ما بتلك البلاد من الوحش في سعة من الماء والمرعى. إلا أن ذلك لم يكن ينفعهما من خوف الأسد. فائتمرت تلك الوحوش واجتمعت إلى الأسد فقلن له: إنك لا تصيد الدابة منا إلا في تعب ونصب. وإنا قد رأينا لنا ولك فيه راحة، فإن أنت أمنتنا فلم تخفنا جعلنا لك كل يوم دابة ترسل بها إليك عند غدائك. فرضي الأسد بذلك وصالحهن عليه وقررن ذلك له. ثم غن أرنباً أصابتها القرعة فقالت لهن: ما ضركن إن أنتن رفقتن بي فيما لا يضركن لعلي أن أريحكن من الأسد، فقلن: وما الذي تأمرين من الرفق بك؟ قالت: تأمرن من ينطلق معي ألا يتبعني لعلي أن أبطئ على الأسد بعض الإبطاء حتى يتأخر غداؤه. قلن: فلك ذلك. فانطلقت الأرنب متأنية حتى إذا جاوزت الساعة التي كان الأسد يأكل فيها تقدمت إليه تدب رويدا. وقد جاع الأسد حين أبطأ عنه غداؤه فغضب وقام من مربضه يتمشى حتى إذا رأى الأرنب قال لها: من أي جئت وأين الوحوش؟


قالت: كإني رسول الوحوش أرسلتني إليك وقد بعثنّ معي لك بأرنب. فلما كنت ههنا قريبا منك استقبلني أسد فأخذها مني وقال: أنا أولى بهذه الأرض ووحشها. فقتلت له: إن هذه غداء الملك أرسلت بها إليه الوحوش فلا تغصبنّه. فغضب الأسد وقال: انطلقي معي فأريني هذا الأسد. فانطلقت بالأسد إلى جب ذي صاف عميق فقالت: هذا مكان الأسد وأنا أفرق منه إلا أن تحملني في حضنك فلا أخافه حتى أريكه. فاحتضنها الأسد وقدمته إلى الماء الصافي فقالت له: هذا الأسد وهذه الأرنب. فنظر الأسد فرأى ظله وظل الأرنب في الماء فلم يشك في قولها، فوضع الأرنب ووثب لقتاله فغرق في الجب وأفلتت الأرنب وعاد إلى الوحوش فأعلمتهن صنيعها بالأسد.


قال كليلة: إن أنت قدرت على هلاك الثور في شيء ليس على الأسد فيه مضرة فشأنك به. فإن مكان الثور قد أضر بك وبي وبغيرنا من جنود الملك. وإنت أنت لم تستطع ذلك إلا بشيء ينغص الأسد فلا تشترين ذلك بهذا، فإنه غدر منك ومنا ولؤم.


ثم إن دمنة ترك الدخول على الأسد أياما ثم أتاه على حال خلوة وفراغ منه متحازنا. فقال الأسد: ما لي أراك اليوم خبيث النفس ولم أرك منذ أيام؟ قال: ما يخفى عليك. قال الأسد: خير. قال: ليكن الخير. قال الأسد: هل حدث شيء؟ قال دمنة: حدث ما لم يكن الأسد يريده ولا أنا. قال الأسد: وما ذلك؟ قال دمنة: هو كلام غليظ فظيع لا يصلح ذكره إلا على فراغ. قال الأسد: فهذه حال خلوة وفراغ فأخبرني بما عندك.


قال دمنة: إن كل كلام يكرهه سامعه لم يتشجع عليه قائله. فإن كان نصحاً فهو من قائله جرأة إلا أن يثق بعقل صاحبه المقول له ذلك. فإذا كان المقول له عاقلاً احتمل ذلك واستمع له لأنه ما كان فيه من نفع فهو للسامع. فأما القائل فإنه لا نفع له إلا أداء الحق والنصيحة. وإنك أيها الملك ذو الفضيلة في الرأي والعقل، فأنا متشجع لثقتي بك على أن أخبرك بما يكرهه الملك لأنك تعرف نصيحتي وإيثاري إياك على نفسي. فإنه ليعرض في نفسي أنك غير مصدق ما أنا ذاكر لك. ولكن إذا ذكرت أن أنفسنا، معشر السباع، معلقة بنفسك لم أجد بداً من أداء الحق الذي يلزمني. وإن أنت لم تسألني أو خفت أن لا تقبله مني فإنه يقال: إن من كتم السلطان نصيحته أو كتم الأطباء مرضه أو كتم الإخوان فاقته فقد خان نفسه.

قال الأسد: ما ذلك الأمر؟


قال دمنة: أخبرني الأمين الثقة أن شتربة خلا برؤوس جندك فقال لهم: “قد عجمت الأسد وبلوت رأيه وقوته ومكيدته فاستبان لي أن ذلك كله منه ضعف، وأن لي وله شأنا”. فلما بلغني هذا عرفت أن شتربة خوّان كافر غدار بك قد أكرمته الكرامة كلها وجعلته نظيراً لنفسك. وقد تطلعت نفسه إلى أن ينزل بمثل منزلتك، وأنك لو زلت عن مكانك صار ملكنا. فهو لا يدع جهداً إلا بلغه فيك. فإنه قد كان يقال: إذا عرف الملك رجلاً قد كاد أن يساويه في المنزلة والرأي والهيئة والمال والمنع فليصرعه. فإنه إن لم يفعل ذلك كان هو المصروع. وأنت أيها الملك أعلم بالأمور وأبلغ فيها. وإني أرى أن تحتال لهذا الأمر قبل تفاقمه ولا تنتظر وقوعه. فإني لا أدري هل تقدر على استدراكه بعد ذلك أم لا. وقد كان يقال إن الرجال ثلاثة: حازمان وعاجز. فأحد الحازمين من إذا نزل به البلاء لم يدهش ولم يعيَ بحيلته ورأيه ومكيدته التي يرجو بها المخرج مما نزل به ولم يذهب قلبه شعاعا. وأحزم من هذا المتقدم ذو البعد في الرأي الذي يعرف الأمر مقبلاً قبل وقوعه فيعظمه إعظامه ويحتال له حيلة كأنه رأي عين فيحسم الداء قبل أن يبتلى به ويدفع الأمر قبل وقوعه. فأما العاجز فهو المتردد في أمره المتواني في رأيه المتمني فيما بينه وبين نفسه حتى ينزل به الأمر. وهو مفرد مضيّع حتى يهلك. ومثل ذلك مثل السمكات الثلاث.


قال الأسد: وكيف كان ذلك؟

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

قصة يوسف عليه السلام

  يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ     هو أحد الأنبياء الذين ورد ذكرهم في   القرآن ، وهو الابن الحادي عشر للنبي   يعقوب . صدِّيقٌ نبيٌّ من أنبياء   بني إسرائيل   وشخصية دينية مقدسة في   اليهودية   والمسيحية   والإسلام . وسميت السورة الثانية عشر في القرآن باسمه ( سورة يوسف ). يوسف تخطيط لاسم  يُوسف  مسبوق  بالسَّلامِ عليه . عبد الله، صديق، نبي، رسول، ابن  يعقوب ، الكريم بن  الكريم  بن  الكريم  بن  الكريم الولادة غير معروف بِلادُ كَنْعان الوفاة غير معروف بِلادُ مِصر مبجل(ة) في الإسلام ،  المسيحية ،  اليهودية النسب يُوسُفُ بنُ  يَعْقُوبَ  بنِ  إسْحاقَ  بنِ  إبْراهِيمَ  (حسب  القُرآن ). يُعتبر يوسف بن يعقوب من أكثر الشخصيات المشهورة في القرآن  والتوراة ، اشتهر بالمقدرة على  تأويل الأحلام ، وكان شديد الجمال، فقد ورد في  صحيح مسلم  أن يوسف أوتي شطر الحُسن. [ 1 ]  وهو من عائلة شرفها الله بالنبوة لذا وصفه  النبي محمد  ب...

قصة ابراهيم عليه السلام

  قد أثبت الله نبوته ورسالته في مواطن عديدة من الكتاب العزيز، وشهد له بأنه  كان أمة قانتاً لله حنيفاً. قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً  قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا  لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *  وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ  الصَّالِحِينَ} [النحل: 120 - 122].    نسب إبراهيم: ذكر المؤرخون نسبه واصلاً إلى سام بن نوح عليه السلام، ونوح - في سلسلة نسب  إبراهيم- هو الأب الثاني عشر. وقد أسقط بعض النسابين من آبائه في سلسلة  النسب (قينان)، بسبب أنه كان ساحراً. فهو على ما يذكرون: إبراهيم  "أبرام" (عليه السلام) بن تارح "وهو آزر كما ورد في القرآن الكريم" بن  ناحور بن ساروغ "سروج" بن رعو بن فالغ "فالج" بن عابر بن شالح بن قينان -  الذي يسقطونه من النسب لأنه كان ساحراً - بن أرفكشاذ "أرفخشذ" بن سام بن  نوح (عليه السلام). والله أعلم.    حياة إبراهيم عليه السلام في فقرات: 1- موجز حياته عند أ...

قصص وعبر عن الفزيائي

  من الحكم التى يرددها العامة من حين لاخر هو انه من الذكاء احيانا ان تكون غبيا وتطبق فمك فان كثرة الكلام توقع صاحبها في المهالك وقصتنا اليوم عن ثلاثة اشخاص حكم عليهم بالاعدام ظلما وهم : محامى - رجل دين - عالم فزيائي .وعندما حان الوقت لإعدام ثلاثتهم بداؤ برجل الدين وسالوه ان كان يريد ان يقول كلمة قبل ان يودع الدنيا قال يعلم الله انى برئ وانى اثق في عدالته ولما همو بقطع رقبته بالمقصلة فاذا بالمقصلة تقف قبل ان تنزل على راس رجل الدين - فارجعوه للوارء وقالو لقد قال الله كلمته لن تعدم وجاء دور المحامى فقالو له قل كلمة اخيرة قبل ان تموت فقال انا لا اعرف الله حق معرفتة كما رجل الدين ولكنى اثق في العدالة وهمو بقطع رقبتة ولكن ايضا وقفت المقصلة قبل ان تنزل على رقبتة وابت قطعها فقالو لقد قال الله كلمتة في المحامى وحينما جاء دور الفيزيائي قالو له ان اردت ان تقول كلمة اخيرة فلتقلها قال لهم انا لا اعرف الله مثل رجل الدين ولا اعرف العدالة مثل المحامى ولكنى اعرف ان هناك عقدة في المفصلة هى ما تمنعها من النزول وعندما فحصو المقصلة وجدو انه بالفعل توجد عقدة هى ما تمنه المقصلة من ان تقوم بعملها فحلو الع...